كل ظاهرة في الحياة والتاريخ من الطبيعي أن تستولد نقيضها، ولايمكن أن تكون السيرورة على وتيرة حدّ واحد أو مكون واحد على الإطلاق، فالحد الغالب في زمن ستكون أمامه حدود أخرى في زمن آخر، ومن هنا نجد أن جدلية التطور الإنساني العام لايمكن أن تستثني صراع الأضداد، ولايمكن أن يتكون المستحدث الجديد إلا من قوى التناقص، وكم قيل: زمن لك وزمن عليك.
نسوق هذه المقدمة من أجل أن نتذكر العقد الأخير من القرن الماضي حين احتسبت الليبرالية الجديدة بالزعامة الأميركية أن العالم قد انتهى منه القطب النقيض، ودخل وحدة العقيدة الاقتصادية وسيدخل وحدة العقيدة السياسية، والثقافية، والاجتماعية، والحضارية كذلك. وظهر لنا فوكوياما كي ينظر لهذا الدخول بنهاية التاريخ، ثم ظهر هنتنغتون، وريفكين، وجاك أتالي، وإلغين توفلر، وجميعهم كانوا يؤكدون على نظريات في الوصول العالمي إلى مايرون أنه عصرهم، ونظامهم، وزمام التاريخ صار بأيديهم.
ومنذ العام 1993 صدّروا مفهوم العولمة لكي يبشروا بالزمن الجديد، والنظام الكوني الجديد الذي يقوم- كما زعموا- على الوحدة الحضارية لأمم الأرض، والاقتصاد الفضائي والرقمي المزدهر، والحرية والتعددية وثقافة الحياة العولمية الجديرة في القرية الكونية الصغيرة للكمبيوتر وانتهاء البشرية من بؤر التوتر.
وبدأ الرهان العالمي على التحول الدولي الجديد هل سيفضي إلى نظام دولي متوافق عليه أم لا؟ وصار الكثير يفترض أن الانتصار الكبير لقوى الليبرالية- سيدوم على الأقل طيلة القرن الحادي والعشرين.
وحين انطلقت سيرورة العصر الجديد- عصر العقيدة الواحدة للسوق الحرة الرأسمالية- لم تتلمس الإنسانية، بأممها المختلفة صور التحققات المقنعة بالوصول إلى مستقبل غيرما كان الحال عليه زمن النظامين العالميين، والثنائية القطبية، بل تلمست أن الأقوياء الثمانية الصناعيين يريدون أن يقرروا بمفردهم مصير الآخرين.
ولم يأتِ العام 1999 والأقوياء الصناعيون يجتمعون في مدينة سياتل الأميركية حتى انفجرت بوجههم حركة اجتماعية وصفت بحركة اللاعولمة، وفي سياتل الأميركية استطاعت هذه الحركة ومن حالفها أن تغلق مدينة سياتل أثناء استضافتها لمؤتمر منظمة التجارة العالمية، ومن سياتل انتقل الصدى إلى روما، وإلى براغ، وما سترخت وصارت هذه الحركة المناهضة للعولمة صوتاً بارزاً في الحياة العالمية- في غرة القرن الحادي والعشرين- والليبرالية الجديدة بعولمتها على النموذج الأميركي لم تفلح بعد في مد شبكة السيطرة الأميركية كما خططوا لها.
ومن الجدير بالذكر أن أغنية طريفة قد شاعت في هذا الخصوص تقول: «فليكن لديكم القدرة على أن تشعروا بأي ظلم يقع على أي شخص في أي بقعة من العالم، فلنقذف بأرواحنا في وجه الظلم ومنذ العام 1999 ظهر الضد التاريخي للعولمة من فقراء العالم، وقد رأينا في دافوس ماذا جرى.
وحين فقدت العولمة بريقها اللبيرالي، ورأت البشرية- والشعب الأميركي على وجه الخصوص- أن ما يحدث في سياسات العولمة وأميركا القطب الوحيد المهيمن ليس سوى توجه واحد هو ارتهان المصالح الأميركية العليا لمصالح «إسرائيل» والصهيونية، فكأن الأميركيين قد خلقوا فقط من أجل دفع الضرائب التي تصرف على المشروع الصهيوني.
ومن المعروف كيف استبدت (إيباك) وتستبد بالصناع الحقيقيين للقرار الأميركي وتمسك بإرادة المجمع الصناعي، المالي، النفطي الأميركي.
وعلى الرغم مما حلم به الأميركيون الشعب من برنامج أوباما لكنهم أحبطوا مباشرة حين بدأت السياسة الأميركية تنشد الحياد النسبي أو استبعاد نظرية الحرب الاستباقية والخطاب الامبراطوري.
فاللوبي الصهيوني لم يترك الإدارة الأوباميّة لكي تنطلق من المصالح الأميركية وانتخابات الكونغرس والشيوخ مؤخراً دليل ساطع، وما حدث ويحدث في إدارتهم لمفاوضات السلام مع الفلسطينيين دليل لم يعد يقبل الجدل في أن القرار الأميركي- في نهاية المطاف- هو قرار اللوبي الصهيوني.
وهنا والعالم لم ينه العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تظهر حملة احتجاج وتنديد «بإسرائيل» في سياتل- بالذات- في الذكرى الثانية للحرب الصهيونية على غزة. وقد تقرر في 27 من هذا الشهر أن تشهد مدينة سياتل حملة إعلانية منظمة وسيلتها حافلات النقل تنادي بعدم تقديم المساعدات إلى «إسرائيل» بسبب الجرائم التي ترتكبها بحق الفلسطينيين في غزة.
وقد أطلقوا عليها عنواناً مثيراً يقول: (حملة توعية سياتل الشرق الأوسط، ثم كان شعارها: (جرائم الحرب الإسرائيلية. ثم إلى أن تذهب دولارات الضرائب الخاصة بك؟)
واللافت أن الحملة تبنت وضع صورة لمجموعة من الأطفال الفلسطينيين أحدهم يحدق في مشاهديه والباقون توجهت أنظارهم إلى ماكان منزلاً، وأضحى ردماً.
ويقول إدماست المتحدث باسم الحملة: (ليس من المفترض لهذه الحملة أن تكون رسالة معادية «لإسرائيل» بل هي رسالة تهدف إلى إثارة النقاش والتوعية).
ويؤكد منظمو الحملة أنه إلى متى تدفع ملايين الملايين لإسرائيل من دافع الضرائب الأميركي لتصرف على الفصل العنصري والاحتلال وجرائم الحرب وطرد الفلسطينيين وبناء المستوطنات؟!!
وإذا كان في 27 كانون الأول عام 2010 ستبدأ مدينة سياتل بمناهضة «إسرائيل» فهل ستستجيب العواصم العربية لصوت الحق المنطلق من سياتل وتنتفض العروبة ضد المحتل؟ هذا السؤال برسم ذلك اليوم القادم.