[لاشك في أن قانون الاستفتاء العام الذي أقره الكنيست الإسرائيلي مؤخراً يشكل سابقة في تاريخ إسرائيل، لأنه يُجيز للمرة الأولى إخراج صلاحيات الحسم واتخاذ القرار من حدود الكنيست ومنحها للجمهور،
وبذلك نجح اليمين الإسرائيلي في تكريس رؤى وتوجهات مناهضة لمبدأ وعمل الكنيست الديمقراطي المزعوم، هذا إذا كان هناك ديمقراطية في إسرائيل، حيث إن حكومات الغرب بمعظمها تعتبر إسرائيل واحة للديمقراطية وسط أنظمة ديكتاتورية حسب ادعاءات إسرائيل نفسها، وهذا بطبيعة الحال اعتبار يجافي الحقيقة في أبسط صورها وأشكالها.
هذا ويمكن القول إن للقانون المذكور أهدافاً متعددة منها ما يخص الداخل الإسرائيلي ومنها ما يخص المحيط العربي والعالم.
فالرسالة التي أراد أصحاب القانون توجيهها إلى الداخل أو بالأحرى الرسالة التي أرادتها حكومة نتنياهو هي أن اليمين المتطرف استطاع تكريس سيطرته على الدولة بمؤسساتها المختلفة بحيث لا يشاركه أحد في صنع واتخاذ القرار السياسي، وبمعنى آخر فإن هذا اليمين تمكن من اختطاف الحكومة ومؤسساتها إلى داخل ايديولوجيته العنصرية المتطرفة.
أما فيما يتعلق بالشق الثاني من الرسالة إلى الخارج فالهدف واضح وهو أن حكومة /نتنياهو- ليبرمان/ تريد تعزيز موقعها التفاوضي مع الفلسطينيين والعرب عامة حول أي تسوية، بحيث تكون أي دولة فلسطينية موعودة مستقبلاً مفصلة على مقاسات اليمين الإسرائيلي ورؤاه وتوجهاته.
لقد نجحت حكومة (نتنياهو) في تمرير مثل هذا القانون المتعلق بالاستفتاء العام والذي يكرس توجهات ووجهات نظر تتعارض مع ألف باء الديمقراطية وهو نهج يميني عام ظهر في النصف الأول من القرن الماضي في العديد من الدول الأوروبية.
ومن الملاحظ أنه كلما تكشفت أمام المجتمع الإسرائيلي حاجته وحاجة المنطقة إلى سلام وإلى تسوية معقولة ومقبولة، تعمقت التوجهات اليمينية وترسخت في الخطاب وفي السياسة وعلى أرض الواقع.
ولا يخفي بعض المنظرين الإسرائيليين قلقهم من إمكانية أن تتدحرج التجربة الإسرائيلية برمتها من نظام تمييز عنصري مقنع إلى نظام عنصري معلن.
إذاً، لم يكن من المفاجئ صدور هذا القانون عن حكومة متطرفة آلت على نفسها تعطيل أي جهود للتسوية أو بالأحرى ربط نفسها بصخرة رفض التسوية وإدارة الظهر للمبادرة العربية التي جعلتها إسرائيل حبراً على ورق، ذلك أن القانون الجديد يعكس- كما اتضح- مزاجاً يمينياً عاماً متجذراً ينشط بصورة ملحوظة للقضاء على أي قناعات موجودة أو يمكن أن تظهر حول ضرورة التسوية مع العرب ودفع عملية التفاوض قليلاً إلى الأمام، وخوفاً من أن تقتحم مثل هذه القناعات الحصن الإسرائيلي النفسي الذي وقف حائلاً حتى الآن دون تقدم أي مسار تفاوضي على أرضية الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة عام 1967 وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس.
إن اليمين المتحجر في إسرائيل والذي نسج ولايزال روايات مضللة حول الصراع العربي- الصهيوني ركز في هذه الروايات على دفع منسوب القلق الوجودي اليهودي الجمعي إلى الذروة، حيث أشارت أبحاث إسرائيلية كثيرة إلى أن أي انسحاب في الجغرافيا يثير القلق في الديمغرافيا.
ومن هنا يمكن أن نفهم أن قانون الاستفتاء هذا يشير إشارة واضحة إلى أن من بين أهدافه أيضاً الحيلولة دون إسهام المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل في أي عملية سياسية مستقبلية تهدف إلى تسوية النزاع مع الفلسطينيين على قاعدة إيجاد دولة مستقلة لهم، بل يمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك بالقول إن هذا القانون يعتبر مؤشراً واضحاً على أن اليمين الإسرائيلي يسعى جاهداً إلى إقصاء عرب الداخل (فلسطينيي 1948) عن العملية السياسية بأسرها قبل وبعد أي تسوية قد تحصل، وهذا يندرج في إطار ما جرى من حديث وما طرح من شعارات ومطالب حول يهودية الدولة وضرورة اعتراف العرب بها قبل كل شيء وكشرط لرؤية تسوية.
لقد انبرى اليمين الإسرائيلي باتجاه تكثيف مناوراته لإبعاد المفاوضات عن أي نتائج إيجابية قد نتوصل إليها عن طريق تعطيلها وخلق المعوقات أمامها وطرح الشروط التعجيزية مع المضي قدماً في الوقت نفسه في عمليات الاستيطان وتهويد الأرض بشكل متسارع، وبالتالي جاء هذا القانون الجائر ليكون بمثابة السلاسل الحديدية التي توثق الأقدام لتأخير أي تقدم قد يحصل على مسار التفاوض الجاد وإبقاء هذا التفاوض عبثياً.
وهكذا نخلص إلى القول إن مثل هذا القانون وما سبقه من قوانين عنصرية جائرة، وما يمكن أن يتبعه أيضاً من قوانين وإجراءات مماثلة يجعل من إسرائيل تظهر على حقيقتها/كجنوب إفريقيا الأمس/ و/ كحصن عنصري منيع/ وخاصة أن هناك تيارات فكرية إسرائيلية تدفع بهذا الاتجاه في ضوء نشاط اليمين الإسرائيلي الذي وصل إلى الذروة في الداخل الإسرائيلي، و هيمن هيمنة كاملة على حياة الإسرائيليين.
أمام ذلك كله يتضح أن لا خيار أمام الفلسطينيين والعرب عامة إلا خيار المقاومة، فالمقاومة وحدها التي يمكن أن تحد من هذا التطرف اليميني الإسرائيلي الأعمى الذي يجتاح المجتمع الإسرائيلي، أما إذا بقي العرب على هذه الحالة من التراخي وإعطاء الفرصة تلو الأخرى لجهود السلام أو لما يسمى الراعي الأميركي لعملية السلام فإن اليمين الإسرائيلي الحاكم في إسرائيل سيواصل طروحاته وممارساته العملية لتهويد ما تبقى من الأراضي العربية المحتلة وخاصة في القدس والسير في مخطط طرد الفلسطينيين من إسرائيل على قاعدة إقامة الدولة اليهودية الخالصة والنقية حسب التعابير والمعتقدات التوراتية.