برزت في الآونة الأخيرة ظاهرة استخدام اللغة العربية المحكية في محافل لم تكن لتصل إليها لولا محصلة من الأزمات التي شهدتها الساحة الثقافية العربية منذ عقود قليلة.
وعلى ما يبدو فإن استخدام اللهجات المحلية في تلك المحافل هي امتداد لتلك الأزمات التي أقل ما يقال فيها: إنها تعبر عن انطفاء حركة الإبداع في الثقافة العربية, فالاعلام المرئي والمسموع والذي أخذ حيزه بالاتساع بعد بروز ظاهرة الفضائيات الخاصة قد استوعب عدداً كبيراً من «أنصاف المثقفين» وهؤلاء بدورهم أسهموا وعبر برامج عديدة في إعطاء شرعية للهجات المحلية، وفي ذات الوقت نقلوا رسالة ثقافية مغلوطة لأن اللغة بمفرداتها الأصلية والأصيلة هي وحدها القادرة على ايصال منظومة الأفكار بشكل منطقي، ولأن الخواء الثقافي الذي يعتري نجوم تلك الفضائيات قد ألقى بثقله على مسرح نشر الثقافة بأشكالها الجديدة وبمنطق اللغة المحكية التي أصبح من العسير على المتلقي فهم الرسالة فبالرغم من هذا فإننا نجد من يدافع عن مشروعية هذا الفعل لأسباب عديدة, لكن المهم في الأمر أن هذا الفعل مرتبط بعقم الثقافة الذي يروج لها عبر اللغة المحكية, وبالتالي عقم ناقل هذه الرسالة الثقافية فالأمر ينطوي على هذا المعنى بالتحديد وإن كانت مقولات الدفاع عن اللهجات المحكية باعتبارها إرثا ثقافيا لا يستند إلى أي معطى علمي وحتى لو كانت كذلك فهي محط دراسة وليست أساسا في نقل الثقافة.
وعلى العموم هنالك الكثير من الأمثلة التي تروج لها الفضائيات وأنصاف مثقفيها في استخدام اللهجات المحكية هؤلاء اليوم يعدون نجوما ومشاهير في عالم الثقافة وعالم الفضائيات الذي بدأ يختزل حركة الثقافة العربية فقد تكون اللغة الفصحى اليوم بحاجة إلى كثير من العمل عليها وتطويرها بحيث تتناسب مع معطيات العصر وتطوراته، وهي المسار الوحيد لبلوغ هذا الهدف ومن دونها لا يمكن القفز أو المرور لنجاح هذه المهمة لكن أن تختصر اللهجات المحكية هذه المهمة وتحل محلها فهذا يعني بالضرورة الغياب الكلي للشاعر الحقيقي والروائي المبدع والقاص والناقد والأديب، هذا الغياب هو بالتأكيد يكشف حقيقة ضآلة مفردات اللغة واستعصاء في التفكير والبحث وبالتالي الكتابة الرصينة في «اللغو» تطالعنا في معظم تلك النصوص كأن اللغة حرفة منفصلة عن الواقع وبالتالي نشهد هذه المتاهة اللغوية التي يغرق بها صناع تلك النصوص، فاللغة ومفرداتها هي جزء لا يتجزأ من تمثيل الواقع ووصفه والبعد عن أشكاله وصوره من خلال نظرة وتصور مبدع وليس من خلال قوال يتقن حرفة الكلام الذي لا يحمل أي معنى.
ولا أن تكون مجرد شكلٍ من أشكال التلقين المدرسي والجامعي وطريقة من طرق التعليم لأنها ستقودنا إلى نتيجة حتمية تقول: إن استخدام هذه اللغة هي فرض مدرسي أو جامعي أو للمجاملة في حين أن اللغة إذا أتقنا تعلمها تعيدنا إلى مسارنا الصحيح فبدونها تفقد الثقافة معناها ويستبيح «أنصاف المثقفين» عقولنا ومخيلتنا وذاكرتنا دون خجل أو وجل.