اكتشف حكام الكيان الصهيونيّ هكذا فجأة ودون سابق إنذار أنّ لديهم قلوباً مصنوعة من اللحم والدم ، أو هكذا خيّل إليهم مع أنّ العالم كلّه يعلم أن هذه القلوب مقدودة من الحجارة بل هي أشدّ قسوة من الحجارة، هذا إذا جاز لنا تسميتها بالقلوب، ولم يشأ أصحاب الاكتشاف تفويت هذا الحدث العظيم بل أرادوا له أن يكون مشفوعاً بالتطبيل والتزمير فقرّروا إقامة احتفال ضخم يناسب جماله وجلاله!
ولكي يكون الاحتفال مميزاً على نحو يشدّ كلّ من سمع أو لم يسمع به، فقد قرّروا الخروج به عن الطريقة التقليدية للاحتفال فاختاروا طريقة غريبة، تتمثّل بإحضار عدد من جنود جيش الاحتلال الإسرائيليّ وتوجيه تهمة ما لهم، والشروع بإجراء محاكمة عادلة جزاء ما اقترفت أيديهم من جرائم بحقّ أبناء الشعب العربيّ الفلسطينيّ الذين يحرص الحكام الصهاينة على حياتهم حرصاً كبيراً، لذلك يجدون الطريقة المثلى للحفاظ على حياتهم بإماتتهم إمّا جوعاً عن طريق الحصار كما يحدث في ( غزة)، أو قتلهم قتلاً مباشراً كما يحدث في الأراضي العربية المحتلة حيثما وجدت قوّات القتل والاحتلال الإسرائيلية!
وتشاء المصادفة الساخنة أن يقع الاختيار على جنديين وجهت لهما محكمة عسكرية إسرائيلية، تهمة استخدام فتى فلسطينيّ كدرعٍ بشريّ خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة قبل نحو عامين، ولم يكتفِ الجنديّان بذلك بل قاما بإجباره على البحث عن أمتعة مشبوهة بدلاً من أن يقوما هما بذلك، وكانت النتيجة أن أصدرت حكماً بالسجن مع وقف التنفيذ بحقّهما فما أقسى ذلك الحكم وما أعدل تلك المحكمة!
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: على ذقن من تضحك هذه المحكمة البلهاء ،على ذقن العالم الذي سمع وشاهد ما جرى خلال العدوان الإسرائيليّ على غزة؟!
أم إنها تضحك على نفسها لشدّة اندماجها بتمثيل دور ذلك الإنسان ذي الضمير الحريص على العدالة حرصه على حياته؟!
وقبل أن نستغرق في تأمّل طبيعة الحكم ( العادل) الذي صدر عن المحكمة لا بدّ من التذكير بأنّ هذا الحكم يعني أن المجندين السابقين اللذين أدينا الشهر الماضي بتعريض حياة الفتى للخطر والتصرف بشكل غير لائق سيكونان مطلقي السراح، سيسرحان ويمرحان بعيداً عن أعين الرقباء والله وحده يعلم كم من الجرائم الجديدة سيرتكبان قبل أن ترسل لهما المحكمة تهديداً جديداً بأنهما سيكونان عرضة للحبس في منطقة احتجاز بالجيش لمدة ثلاثة أشهر على الأقل إذا سوّلت نفس كلّ واحد منهما له ارتكاب جريمة أخرى.
وتذكّرت المحكمة- وعينها وذاكرتها كما يبدو لا تنامان- أنّ هذين الجنديين ارتكبا أثناء مشاركتهما في هجوم بري على مقاتلي حركة المقاومة الإسلامية (حماس) يوم 15 كانون الثاني 2009 مخالفة أخرى وتطلب المحكمة السماح بتسميتها مخالفة وليس جريمة، وتمثلت المخالفة بأنهما ساعدا حين كانا من أفراد المشاة على اقتحام مبنى سكني في حي تل الهوى بمدينة غزة.
وجاء في حيثيات الحكم الذي أصدرته المحكمة الإسرائيلية والذي استند إلى أقوال الشهود، أن الجنديين جمعا السكان وأمرا الفتى (ماجد رباح) الذي لم يشفع له عمره إذ كان يبلغ من العمر آنذاك تسع سنوات بفحص بعض الأمتعة تحسباً من وجود متفجرات.
وعندما لم يتمكن الفتى من فتح إحدى الحقائب أمره الجنديان بالابتعاد عنها وأطلقا النار عليها، ونجم عن ذلك تعريض جميع الموجودين للخطر وأعيد الفتى لاحقاً إلى أسرته دون أن يمسّه سوء، وهكذا تنتهي الرواية الإسرائيلية.
ولم تعر الدهشة العالم عندما صدر الحكم المهزلة على هذا النحو، بدلاً من تقديم هذين الجنديين للمحاكمة أمام محكمة دولية لجرائم الحرب لأنّه يعرف جيّداً الطبيعة الإجرامية للكيان الصهيونيّ.
لذلك لن تهدأ الحركة التي تبذلها قوى الحقّ والعدالة في العالم مطالبة بإخضاع قادة الجيش الإسرائيلي والسياسيين الصهاينة المتورطين بارتكاب آلاف الجرائم للمحاكمة في الخارج، وهناك مئات البراهين على مسؤوليتهم المباشرة في إزهاق أرواح أكثر من 1400 فلسطينيّ سقطوا شهداء منذ العدوان اللاإنسانيّ المجرم على (غزة)، ويتوالى سقوطهم يوماً بعد يوم في كلّ مكان من فلسطين المحتلة.
لقد كشف الحكم الصادر عن هذه المحكمة الإسرائيلية الصوريّة عن الوجه الأسود (للعدالة) الإسرائيلية، ولا يجوز أن نستعمل كلمة عدالة في هذا المقام؛ إلاّ إذا اشرنا إلى العدالة الإسرائيلية بتوزيع القتل والتدمير والتجويع والحصار على أبناء الشعب العربيّ الفلسطينيّ، وسيلقى حماة هذه ( العدالة) الصهاينة جزاءهم يوماً ما جزاء كلّ جريمة اقترفوها، وسيعرفون يومئذٍ أنّ هناك عدالة حقيقية تنصف المظلوم وتقتصّ من المجرم.
.