الصدمة ليست بالمصطلح الكافي لوصف تصريحات القاضي ريتشارد غولدستون بأنه لم يكن لدى بعثة تقصي الوقائع الأدلة الكافية لإثبات جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل
بحق المدنيين في قطاع غزة . وكانت حكومة بنيامين نتنياهو اعتبرت تقرير غولدستون من أفتك الأسلحة المعتمدة في ما تسميه حملة «نزع الشرعية» عن إسرائيل.
وقد تم تجميع هذه الوثيقة ، والمعروفة باسم تقرير غولدستون ، بعد إجراء تحقيق شامل برئاسة القاضي الجنوب افريقي وثلاثة من المحققين يشهد لهم بنزاهتهم. لقد وثقوا 36 حادثة وقعت خلال العملية الاسرائيلية ضد قطاع غزة «الرصاص المصبوب» ، حيث جرى هجوم عنيف لم يسبق له مثيل ضد غزة الصغيرة والفقيرة والمحاصرة،ما ادى إلى مقتل أكثر من 1400 فلسطيني ، وجرح أكثر من 5500 آخرين.
غولدستون يهودي وصهيوني على حد سواء. و حبه العميق لإسرائيل ظهر بشكل جلي مؤخرا. في هذه الحالة بالذات، ظهر تناقض بين موقفه الايديولوجي والتزامه العدالة والحقيقة ، على النحو المنصوص عليه في ميثاق مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
بعد 18 شهرا من التأمل الشخصي، فضلا عن حملة لا نهاية لها من الضغط والترهيب من قبل الجماعات اليهودية الصهيونية والجماعات المؤيدة لاسرائيل من جميع أنحاء العالم ، استسلم الرجل في نهاية المطاف.
قبل أ يام فاجأ رئيس اللجنة ريتشارد غولدستون العالم بمقالة نشرتها صحيفة «واشنطن بوست» حيث قال : «لو اني عرفت ما اعرفه الان ،لكان تقرير غولدستون وثيقة مختلفة» ولكن ما الشيء الذي تبدل لدى غولدستون منذ ان أصدر تقريره المؤلف من 575 صفحة في أيلول 2009؟
الأساس المفترض لإعادة التفكير عند غولدستون هو متابعة تقرير صادر عن لجنة الامم المتحدة برئاسة القاضية المتقاعدة ماري مكجوان ديفيس في نيويورك . ولم يكن تقرير اللجنة يستهدف إعادة التحقيق في جرائم الحرب في غزة، بل متابعة النتائج التي توصلت إليها لجنة غولدستون والتي حثت على إحالة المسألة إلى المحكمة الجنائية الدولية. وقالت ديفيس في مقابلة حديثة مع صحيفة جيروزاليم بوست الاسرائيلي عملنا كان منفصلا تماما عن عمل غولدستون وهو يقضي ان نبدأ من تقرير غولدستون .
فكيف يمكن للبحث الاستقصائي الذي استخدم نتائج غولدستون كنقطة انطلاق ان يكون مرتكزا لدحض ما جاء في التقرير الأصلي ؟
تقرير مكجوان ديفيز اعترف بأن إسرائيل أجرت تحقيقا في «سوء السلوك التنفيذي» فيما هو معروف خارج اسرائيل بمجزرة غزة. وقد تابعت الأمم المتحدة التقرير المكون من 400 تحقيق لكنها لم تؤكد صحتها. هذه التحقيقات السرية أدت في الواقع الى إجراءات تأديبية محدودة للغاية.
أكثر من ذلك ، فقد ذكر فريق من خبراء الامم المتحدة انه «ليس هناك مؤشر على أن إسرائيل فتحت تحقيقات في تصرفات هؤلاء الذين صمموا وخططوا وأمروا وأشرفوا على عملية الرصاص المصبوب».
ومن المعروف ان إسرائيل اجرت تحقيقا بنفسها فيما جرى لكن النتائج كانت مغلوطة. التحقيقات الإسرائيلية هي سخرية واضحة من العدالة. ومعظم النتائج التي توصلت إليها ، شبيهة ان لم نقل مطابقة لنتائج التحقيق الذي اجرته في اعقاب الحرب الإسرائيلية على لبنان في 2006 . فالتحقيق انتقد بشكل كبير الفشل في تحقيق النصر في الحرب، لكنه لم يتطرق الى مقتل وجرح الكثير من الابرياء المدنيين .. هل هذا ما عناه غولدستون عندما استخدم عبارة «لو اني كنت قد عرفت ما أعرفه الآن» ؟ وهل هذا يفسر سرية التحقيقات الإسرائيلية وهزليتها؟ وهل هذا يكفي لاستخلاص استنتاجات متطرفة مثل ان القيادة السياسية لم تكن تستهدف المدنيين عمدا ؟
ويعتبر تراجع غولدستون هذا تبنياً لموقف اسرائيل الذي يزعم ان الجرائم خلال الهجوم على غزة كانت من قبل افراد منحرفين ، وليست سياسة أو قواعد اشتباك معتمدة لدى القادة العسكريين. هذا ما قاله جورج بشارات ، استاذ القانون في كلية هاستينغز كما ذكرت صحيفة سان فرانسيسكو كرونيكل . وأضاف بشارات، «ومع ذلك ، فإن التقرير الأصلي اتهم اسرائيل بشن هجمات متعمدة على المدنيين على نطاق واسع ، وبالتالي فإن تراجع غولدستون هو ادعاء لا يسقط من أهمية الحقائق الواردة في تقريره التي لا تزال دون منازع أو دحض».
يقول جون دوغارد ، أستاذ القانون في جامعة بريتوريا والمقرر الخاص السابق للامم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة ان ريتشارد غولدستون هو قاض سابق و يعلم جيدا أن تقريرا لتقصي الحقائق أعده أربعة أشخاص، لا يفقد قيمته في حال تراجع عنه شخص واحد من أعضاء اللجنة.
وكتب دوغارد في نيو ستيتسمان ، المعروف بمواقفه المبدئية في الماضي ، «إنه لأمر محزن ان يقدم بطل المساءلة والعدالة الجنائية الدولية على التخلي عن مبادئه بشكل غير مدروس ».
ومما لا يثير الدهشة، شماتة القادة الاسرائيليين. حيث قال رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو «كل شيء قلناه ثبتت صحته». وذلك ردا على انهيار غولدستون الأخلاقي. وذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن غولدستون وافق على زيارة إسرائيل في تموز خلال مكالمة هاتفية مع وزير الداخلية الاسرائيلي ايلي يشاي بقوله «سأكون سعيدا لتلبية الدعوة في المستقبل ،و أنا دائما لدي حب لدولة اسرائيل».
والحقيقة هي أن نبذ غولدستون لبعض نتائج لجنة التحقيق التي ترأسها أمر غير قانوني . دون ادنى شك ، وإقدامه على تغيير الحقائق سوف يمثل الدعم «العمود الفقري» لمنطق إسرائيل في هجماتها على قطاع غزة في المستقبل. وغولدستون، الذي اعتبر في الماضي رجل الشر من قبل المدافعين البارزين عن إسرائيل في الولايات المتحدة ، سيصبح نقطة بيع في جرائم حرب اسرائيل المستقبلية .
إذا كان مقتل أكثر من 1400 فلسطيني ليس بمسألة تتعلق بالسياسة ، وان قتل حماس لأربعة اسرائيليين هو «المتعمد» ، فإن السماء هي الحد الأقصى لآلة الحرب الإسرائيلية.
والواقع أن كلمة««صدمة»لا تحمل المعنى الصحيح لما جرى فإن كلمة «المشينة» قد تكون ملائمة اكثر.