في أغرب موقف يصدر عن نائب أميركي هو ستيف روثمان وبعد القرار الفرنسي بتزويد الجيش اللبناني بعدد محدود من الصواريخ المضادة للدروع وهي سلاح دفاعي محض, يطلب دون حرج من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إعادة النظر في الصفقة بذريعة المخاطر الكبيرة التي يمثلها هذا السلاح على إسرائيل..!.
قد يرى البعض أن هذا الموقف لا يستحق التوقف عنده بدعوى أنه موقف فردي ويعبر عن رأي شخصي لصاحبه, لكن المسألة تصبح شديدة الاختلاف عندما نستذكر أن الولايات المتحدة في موضوعة تسليح إسرائيل تعمل وفق ثابت استراتيجي تحكمه معادلة محددة تقوم على إمداد إسرائيل بأحدث أنواع السلاح وأشده خطراً وحرمان العرب من امتلاك أبسط وأخف أنواع السلاح دون النظر إلى ما تمثله هذه المعادلة الجائرة من إخلال في توازن الصراع وتهديد سافر للأمن القومي العربي والإقليمي وزعزعة لاستقرار الشرق الأوسط, ما يجعل موقف روثمان تعبيراً عن موقع هذه المعادلة في الاستراتيجية الأميركية واستمرار العمل بها عبر الضغط على فرنسا هذه المرة كي لا تزود الجيش اللبناني بسلاح حتى ولو كان على درجة من التواضع كالصواريخ المضادة للدروع والتي لا تتعدى مهمتها نطاق الدفاع عن لبنان في وجه أي هجوم إسرائيلي مفترض، وقد رأينا الكثير من هذه المواقف تصدر عن الإدارة الأميركية برضا منها أو بتحريض إسرائيلي وتتخذ طابع الاعتراض غير المبرر على صفقات أسلحة وكلها دفاعية لدول في المنطقة, أو طابع الاتهام الكاذب لسورية وإيران بزعزعة استقرار لبنان والمنطقة بذريعة دعمهما للمقاومة.
ما الذي يعنيه تمسك أميركا بهذه المعادلة بالنسبة للبنان أولاً وبالنسبة لدول الإقليم ثانياً؟ وبأي صيغة يجب كسرها لتوفير متطلبات الدفاع عن النفس وضمان الاستقرار الاقليمي المهدد بالسلاح الأميركي المتدفق دون حساب ودون قيد على إسرائيل..؟.
لبنانياً, تعني المعادلة شيئاً واحداً هو جعل لبنان مكشوفاً أمام التهديدات الإسرائيلية الدائمة بالحرب عليه لتحقيق هدفين استراتيجين: الأول هو ممارسة تهديد مستمر للأمن الوطني اللبناني عبر إمداد إسرائيل بالقوة المتفوقة (طائرات إف 35 بعيدة المدى والقنابل الخارقة ونشر القبة الفولاذية ومنظومات الصواريخ المتطورة) مقابل ربط امتلاك لبنان لأي سلاح دفاعي بشرط عدم استخدامه ضد إسرائيل ليصار إلى توظيفه في غير أهدافه الوطنية, وهو الشرط الذي وجد التعبير عنه في ربط المساعدة العسكرية الأميركية للجيش اللبناني قبل فترة من الزمن بتغيير العقيدة العسكرية والسياسية للجيش والقائمة على اعتبار إسرائيل العدو الرئيس والأساسي للبنان, ما جعل الجيش اللبناني يصرف النظر عن هذه المساعدة لتناقضها مع دوره وأهدافه الوطنية والقومية.
والثاني هو إحداث تغيير جديد في معادلة الصراع ينهي وضع لبنان كبلد مقاوم فيها استطاع أن يهزم إسرائيل في أطول حرب لها في تموز 2006 ويسقط أسطورة تفوق جيشها, لتتمكن إسرائيل من استعادة هيبة الردع التي فقدتها وتوقف تداعيات هزيمتها على مكانتها الاستراتيجية ودورها الوظيفي في المنطقة, والطريق الوحيد لهذا التغيير يكمن فقط في تقوية إسرائيل بلا حدود وحرمان الجيش اللبناني من التزود بالسلاح والعمل الدائم لتجريد المقاومة من سلاحها بالضغوط، وإن لم تفلح فبإثارة الفتن وإلصاق تهمة الارهاب كذباً بها وتخويف اللبنانيين من سلاحها لعزلها عن حاضنتها الوطنية.
وإقليمياً, تعني المعادلة ضمان التفوق النوعي الإسرائيلي من الناحية الاستراتيجية ليكون على الدوام مصدر تهديد للأمن القومي العربي والإقليمي معاً ولأمن أي دولة تخرج عن الطاعة الأميركية وتتخذ موقفاً عادلاً أو متوازناً من الصراع أو تبدي ممانعة للمركز الذي تريده أميركا لإسرائيل في المنطقة، ويمنحها قوة التهديد والاستفزاز لكل الدول الإقليمية ودور التحكم بالموقع الاستراتيجي للشرق الأوسط وممارسة ما يحلو لها من سياسة التدخل في العلاقات الاقليمية وتأليب الدول على بعضها وتهديد هذه الدولة أو تلك بالحرب دون أدنى رادع.
والخطير في هذه المعادلة هو صداها الذي بات يتردد دولياً ويجد تفسيره الوحيد في السيطرة الأميركية على الأمم المتحدة وشراء الذمم الرخيصة فيها لتلعب دور الببغاء في ترديد النغمة الأميركية ذاتها بخصوص تغطية الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل بذريعة حماية أمنها، وتصوير إطلاق صاروخ أو اثنين من المقاومة الفلسطينية رداً على الغارات الإسرائيلية الهمجية ضد غزة أنه انتهاك للقانون الإنساني الدولي على حد زعم مسؤول أممي، وكأن هذا القانون يسمح لإسرائيل بإطلاق ما تشاء من الأسلحة على الفلسطينيين بما فيها المحرم دولياً, ولا يسمح للفلسطينيين حتى بمجرد الرد دفاعاً عن النفس.. إنه المنطق الأميركي عينه الذي اعتاد على ممارسة الكذب في تبرير كل ما ترتكبه إسرائيل من عدوان وجرائم حرب بذريعة ((حق الدفاع عن النفس)) ونعت كل ما تقوم به المقاومتان اللبنانية والفلسطينية من دفاع مشروع عن النفس بالإرهاب, ولكن هذه المرة بلسان دولي.
وعودة إلى الشق الثاني من السؤال بخصوص الصيغة المطلوبة لكسر هذه المعادلة ضماناً للأمن العربي والإقليمي, نجد أن هذه الصيغة تكمن فقط في وضع استراتيجية من توجهين اثنين: الأول هو اقناع أميركا بحقيقة أن إمداد إسرائيل بالسلاح وضمان تفوقها وتعزيز مركزها العسكري والسياسي على حساب مراكز دول المنطقة وتفضيل أمنها على أمن العرب والإقليم كله, أمر لا يمكن قبوله تحت أي مسوغ وهو لا يخدم المصالح الأميركية ويتناقض جذراً مع السلام وجهوده, لأنه يشكل تهديداً للاستقرار الاقليمي والسلم الدولي واستفزازاً لدول المنطقة, وتشجيعاً لإسرائيل على مواصلة تهربها من استحقاقات السلام.
أما التوجه الثاني فهو أنه في حالة رفض أميركا التخلي عن سياسة الاخلال بتوازن الصراع لمصلحة إسرائيل, يتعين السعي من جانب الدول المستهدفة بالدعم العسكري الأميركي لإسرائيل وإصرار أميركا الدائم على تجريد العرب والمقاومة وإيران من حقهم بامتلاك أسلحة الدفاع عن النفس, نحو العمل على توفير سبل حماية الأمن العربي والإقليمي والدفاع عن الذات بكل الوسائل, بوصف ذلك الخيار الأخير لدول المنطقة في مواجهة استراتيجية تهديد المنطقة عبر تعزيز التفوق الإسرائيلي.