يشعر المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط (جورج ميتشل) أن مهمته تشبه مهمة معلم طاعن في السن يلقي دروسه التي أكل الدهر عليها وشرب في قاعة خالية من التلاميذ،
ويتخيل هذا المدرس البائس أن التلاميذ الذين انفضوا من حوله بعدما أصابهم الملل القاتل وهم يستمعون إلى الدروس المكرورة المعادة نفسها، سيعودون إلى المقاعد مرة أخرى لينهلوا من ينبوع علمه الذي لا يغيض، ويمر الوقت بطيئاً أو مسرعاً والقاعة خاوية على عروشها، والتلاميذ مصرون على عدم الحضور.
هذا هو الواقع الحقيقي الذي يتحرك (ميتشل) في إطاره الضيق، يصعد إلى الطائرة التي تقله إلى «إسرائيل» وهناك يجد نفسه مضطراً للجلوس مكتف اليدين في حضرة رئيس وزراء الكيان الصهيوني (بنيامين نتنياهو) الذي يشكو إليه (عنف) الفلسطينيين وقسوة قلوبهم وتحجّر مشاعرهم وعدم قبولهم بإخراج المفاوضات من ثلاجة الجمود، ثم ينتقل (نتنياهو) فجأة منعطفاً بسيارة شكواه إلى اتجاه معاكس فيخرج قائمة الشروط المفروضة على الفلسطينيين لتقبل حكومته (الحريصة) على السلام باستمرار التفاوض، وفي مقدمة هذه الشروط: القبول باستمرار الحصار القاتل المفروض على غزة، السكوت المطبق عن سعي «إسرائيل» لتهويد القدس، غض الطرف عن العدوان المتواصل على المسجد الأقصى، والتسليم باستمرار بناء المستوطنات التي بلغت حداً غير مسبوق.
بعد انتهاء المحاضرة التي تفضّل (نتنياهو) بإملائها يحمل (ميتشل) حقيبته متوجهاً إلى (رام الله)، ويتضح من خطواته المتثاقلة ويده الباردة الممدودة لمصافحة قادة السلطة الفلسطينية أنه جاء بالبضاعة القديمة التي لم يعد برقها يخطف أبصار هؤلاء القادة، ونعني بها الوعود الأميركية المتكررة بسوق «إسرائيل» طوعاً لا كرهاً للجلوس على طاولة المفاوضات التي ران عليها غبار كثيف جعل رؤية الأوراق المركونة فوقها عملية غاية في التعقيد.
يبدأ (ميتشل) بتحليل الوضع متكئاً على عبارات سئمها الفلسطينيون مثل: ضرورة إيجاد طريقة لإخراج المفاوضات المتوقفة من عنق الزجاجة، ينصح بالابتعاد عن لغة العنف لأنها لغة لا تعود على الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني إلا بالخسران المبين، ينثر حفنة من الوعود بقرب النجدة الآتية من الإدارة الأميركية لانتشال الفلسطينيين من الوضع الاقتصادي البائس الذي يحكم طوقه الخانق على أقواتهم وأرزاقهم، ويستمر (ميتشل) بإلقاء الدرس وكأنه ممثل بلغت به الحماسة مبلغه وهو واقف على خشبة المسرح، ويذهب به الانفعال في الجهات كلها، ثم يلتفت فجأة ليجد المقاعد وقد خلت من الجالسين عليها، وقتها يفطن لنفسه ويدرك ضرورة تخفيف الاندماج مع الدور الذي يؤديه.
أما قادة السلطة الفلسطينية الذين باتوا على قناعة بأن حقيبة (ميتشل) مغلقة محكمة الإقفال على نحو لا يسمح بإدخال بضاعة جديدة تأخذ طريقها إلى الحقيبة، فلا يسعهم وهم يستقبلونه في كل مرة ييمم وجهه شطر أرضهم، إلا أن يذكروه بما نسيه أو تناساه، ويعيدوا إلى ذهنه مشاهد يشاهدها باستمرار، تشير إلى أن «إسرائيل» هي التي جعلت المفاوضات نكتة سمجة سخيفة ما عادت قادرة على إضحاك نفسها، بسلوكها العدواني الذي يعيد استنساخ ذاته كل يوم وليلة.
وها هو عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية (نبيل شعث) يقول في تصريحات أدلى بها لوكالة (أسوشيتد برس): إن الطرف الفلسطيني مستعد لاستئناف مفاوضات السلام إذا أوقفت «إسرائيل» الاستيطان في الأراضي الفلسطينية كافة، وأنهت الحصار على غزة وقبلت بمرجعية واضحة للتفاوض.
ولم ينس المسؤول الفلسطيني أن يتساءل في تلك التصريحات عن مدى صدق الولايات المتحدة في موضوع إحلال السلام بالشرق الأوسط، وما إذا كانت عاجزة عن الضغط على رئيس الحكومة الإسرائيلية (بنيامين نتنياهو) من أجل وقف الاستيطان.
ويبدو أن الذي يتمناه السيد (شعث) سيبقى في نطاق الأمنيات العصية على التحول واقعاً حياً، لأن الكيان الصهيوني مصر على بناء المزيد من الكتل الاستيطانية، وليست عملية وقف الاستيطان في وارد الحكومة الإسرائيلية لا حاضراً ولا مستقبلاً، كما أن هذه الحكومة مصرة على خنق غزة بإحكام الحصار المفروض عليها، لكن غزة لن تستسلم وستعانق الشمس ولن تطفئ ريح الحقد الإسرائيلي قنديل عزيمتها الذي سيظل متوهجاً.
أما الضغط على (نتنياهو) من قبل الإدارة الأميركية فأمر تعجز عنه الإدارة الأميركية الحالية كما عجزت عنه الإدارات السابقة بكل أسف.
وليس أمام أبناء الشعب العربي الفلسطيني والحالة تحوم في هذا المنزلق المؤلم من التردي إلا توحيد الكلمة ورص الصفوف لمواجهة عدو واضح اسمه «إسرائيل»، التي لم تقدم دليلاً واحداً يثبت أنها راغبة في السلام، بل قدمت آلاف الأدلة أنها تناصب السلام العداء وتكره حتى سماع اسمه فكيف ستتغير يوماً ما وتطيق رؤ