شمولية الشريعة الإسلامية
فضيله الشيخ \\\\ سعيد عبد العظيم
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد،
فللإسلام حكمه في كل قضية من قضايا الحياة، سواء تعلقت بالفرد أو الجماعة، بالمسجد أو بالسوق، بالسياسة الداخلية أو الخارجية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً) (المائدة:3)، ويقول -تعالى-: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام:38)، فهي على قول بعض المفسرين تتعلق بالقرآن، فكل قضية لها حكمه في كتاب الله إما إجمالاً وإما تفصيلاً، والأفعال والأقوال التي تصدر عن الإنسان بل الخلجات وافكارالتي تدور في النفوس أو القلوب لها حكمها في دين الله، وهي تأخذ حكماً من الأحكام الخمسة: واجب، ومندوب ومباح ومكروه وحرام.
والإنسان الذي حمل الأمانة على ظلمه وجهله إذا نصب من نفسه مشرعاً وإلهاً مع الله لابد وأن تتسم تشريعاته ونظمه ومناهجه بالظلم والجهل والقصور والهوى والنقص، ولذلك رأينا القوانين والنظم الوضعية تفصل فصلاً مريباً بين القواعد الأخلاقية والقواعد القانونية؛ فلا مكان فيها للأخلاق فيها للأخلاق، في الوقت الذي امتزجت فيه الأخلاق بالأحكام الشرعية امتزاجاً كاملاً، فلا ضر ولا ضرار، والمعصية لا تواجه بالمعصية والخطأ، ونحرص على تقوى الله فيمن لا يتقي الله فينا.
وهذا الالتزام يتأكد في أحرج الظروف وأدق الأوقات ولذلك: لما أتى أبو جندل يستصرخ المسلمين يوم الحديبية، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أبرم الاتفاقية أو العهد مع أبيه سهيل بن عمرو، أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرجع، وقال له: (يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستعضفين فرجاً ومخرجاً، فإنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً وأعطيناهم على عهد الله، وإنا لا نغدر بهم) [رواه أحمد من هذا الوجه، عمدة التفاسير] ، وقال: (إنا لا يحل في ديننا الغدر). [رواه البخاري]
فهذا معنى من معاني شمول الشريعة، فالعهود كان يبرمها النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي أقام دولة بالمدينة وفق شرع اله، وفي ذات الوقت امتزجت المعاني الأخلاقية بالوعد والعهود امتزاجاً لن تجد مثله في السياسات الميكافيلية والغاية فيها تبرر الوسيلة -كما هو معلوم-.
بل ويقرر الفقهاء المسلمون أن الأجنبي -غير المسلم- إذا دخل إقليم الدولة المسلمة بأمان ولمدة معينة، لا يجوز تسليمه إلى دولته إذا طلبته خلال هذه المدة، ولو على سبيل المفاداة بأسير مسلم عندها، ويبقى المنع من تسليمها إياه وذلك لأن على الدولة الإسلامية أن تفي بعهودها له، فيبقى آمناً لا يمسه سوء، وتسليمه بدون رضاه غدر منها بعهدها له، ولا رخصة فيها، بل ولا يصح تسلميه حتى وإن قتلت دولت جميع رعايا الدولة المسلمة المقيمين في أرضها لأن فعلها ظلم ولا مقابلة بالظلم.
والمسلم وهو يتعامل مع الخلق لا ينسى خالقه، وقد أمر أن يعطي كل ذي حق حقه، ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعثمان بن مظعون: (يَا عُثْمَانُ إِنِّى لَمْ أُومَرْ بِالرَّهْبَانِيَّةِ، أَرَغِبْتَ عَنْ سُنَّتِى؟ قَالَ: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: إِنَّ مِنْ سُنَّتِى أَنْ أُصَلِّىَ وَأَنَامَ، وَأَصُومَ وَأَطْعَمَ، وَأَنْكِحَ وَأُطَلِّقَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى، يَا عُثْمَانُ إِنَّ لأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) [رواه الدارمي، وصححه الألباني]
ويعلم أن قضاء القاضي وحكم الحاكم وفتوى المفتي لا تجعل الحلال حراماً، ولا تحول المعصية إلى طاعة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِى نَحْوَ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلاَ يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) [متفق عليه]
وبالتالي فلا يجل لمسلم أن يبيح لنفسه فعل الحرام أو أكله، وإن أباح له ذلك القضاء، ولأن الحاكم يحكم حسب الظاهر، والله يتولى السرائر، ولأن مناط الثواب والعقاب في الآخرة على حقائق الأفعال وبيات الإنسان، وما ارتكبه من حلال أو حرام، والعبرة بالمقاصد لا بالألفاظ.
وفي ظل هذا الشمول سنعلم أنه لا فصل بين العلم والعمل، ولا بين الدين ولدولة، ولا بين الدنيا والآخرة، ولا بين الأرض والسماء، ولا بين الصلاة والسياسة، ولا بين الأخلاق والحكم، ولا بين الزكاة والاقتصاد، ولا بين ساعة وساعة، ولا بين رجل ورجل، فلا يصح بعد ذلك أن نقول: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، أو الدين لله والوطن للجميع، ورجال الدين ورجال الدولة، أو ساعة لربك وساعة لنفسك، أو اليوم خمر وغداً أمر (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:162)
وقوله -تعالى-: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (المائدة:49)، لا ينفصل عن قوله -تعالى-: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (النساء:103)، ولا يتباعد عن قوله -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة:
، وقوله -سبحانه-: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة:29)
خرج من مشكاة واحدة هو وقوله -سبحانه-: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ) (آل عمران:19)
وتقرأ في الأمر بالشورى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى:38)
وفي إيتاء الزكاة: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ . الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) (فصلت:6-7)
وفي أداء الأمانة: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء:58)
وفي الميراث: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ) (النساء:11)
وفي تحريم الربا: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (البقرة:275)
وفي عقوبة السارق: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة:38)
وفي التعزير: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (الشورى:40)
وفي علاقة الابن بوالديه: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً) (لقمان:15)
وفي علاقته بزوجته: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء:19)
شمول واضح وظاهر لكل ناحية من نواحي الحياة، ولو ذهبنا نستطرد لنقلنا آيات القرآن الكريم، وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن أكمل له ربُّه الدين، وأم عليه النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيع عنها إلا هالك، وقد بيَّن لنا وأعطانا من كل شيء علماً، وحتى لا نحتاج بعد ذلك لهذه الزبالات التي تفتقت عنها عقول البشر، واعتبروها مناهج وفلسفات ونظريات ومن بينها الديمقراطية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.