"إسرائيل" تفقد كنزاً استراتيجياً ..بقلم : جميل مطر
كان محمد حسنين هيكل واحداً من قليلين جداً انتبهوا إلى ضرورة عدم إغفال الموضوع “الإسرائيلي” عند مناقشة مستقبل الحياة السياسية في مصر . ففي حديثه مع الزميل فهمي هويدي الذي نشرته جريدة الشروق (5 فبراير/شباط)، قال إنه ينبغي أن نستعيد علامات الاستفهام الكثيرة التي تثار في العلاقات المصرية - “الإسرائيلية”، وأن نسأل لنعرف نوع وحجم التعهدات والضمانات التي قدمت لضمان أمن “إسرائيل” . ونقل عن مسؤول “إسرائيلي” عبارة تحمل معنى أن “إسرائيل” تعد النظام المصري القائم حالياً كنزاً استراتيجياً لها . أتفق تماماً مع ما طرحه هيكل، وأعتقد أن غياب الاهتمام بعلاقات مصر مع “إسرائيل”، كموضوع من موضوعات الإصلاح وإعادة بناء مصر، يجب أن يثير القلق ويدفعنا إلى حث شباب الثورة المصرية ومفكريها على إدراجه في جدول أعمالها في الوقت المناسب .
زاد اقتناعي بأهمية الأمر حين نبهني شاب من شبان التحرير إلى حقيقة غابت عن الكثيرين في زحمة الأزمة الناشبة منذ أيام حول قضايا ومطالب تتعلق مباشرة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ، أما الحقيقة التي غابت فهي أن الإعلام الرسمي المصري تجاهل كلية الدعم الفائق الذي تعهدت به “إسرائيل” حكومة وشعباً وبرلماناً للنظام المصري في مواجة الثورة الناشبة ضده، في وقت كانت السياسة الخارجية المصرية تلف العالم بحثاً عن ذرة دعم من أي جهة أو دولة . لم يعرف أغلب المصريين أن خلافات حادة نشبت بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” بسبب التحول الأمريكي، بعد تردد وارتباك شديدين، في اتجاه الضغط على الحكومة المصرية للاستجابة لبعض مطالب الثورة . كان الموقف “الإسرائيلي”، ولا يزال بالغ الوضوح وهو أن “إسرائيل” لا تريد تغييراً من أي نوع في هيكل نظام الحكم في مصر، ولا تهتم بأن يفهم العالم، والمصريون بخاصة، أن الإصرار على هذا الموقف يحمل معنى التهديد المباشر والصريح للشعب المصري ولإرادته، ومعنى أن هذا الشعب لم يعد يملك الحق في تقرير مصيره وتغيير أحواله قبل الحصول على موافقة “إسرائيلية” .
عدت بالذاكرة إلى ثورات نشبت في العقود الأخيرة وأثارت ضجة عالمية واهتماماً في دول عديدة، كانت ثورة الألمان الأشد تأثيراً ومدعاة للاحتفال لأن المنظمين والإعلاميين الدوليين تعمدوا جميعاً أن يجعلوا سور برلين مركزاً لها، فالسور في حد ذاته رمز لثلاثين عاماً تركزت خلالها عيون البشر وأفئدتهم على حائط يفصل بين عالمين، ويهدد باستمرار وجوده أو بمحاولة اقتحامه أو اختراقه سلام العالم، ويجسد حرباً باردة تنتفع منها القوتان الأعظم ويبرر لهما تصرفاتهما السياسية والعسكرية، ليس فقط ضد شعوب أوروبا على جانبي السور، ولكن أيضاً ضد شعوب العالم كافة . مباشرة بعد برلين سقطت صروح شيوعية واستبدادية عدة في شرق أوروبا على أيدي انتفاضات متعاقبة . تحرك ثوار أوروبا متأثرين بانهيارات مؤسسية وأيديولوجية في موسكو، ولكن أيضاً بغضب مشحون على امتداد سنوات ضد حكام كذبوا واستبدوا وتوحشوا وأفسدوا إلى حد أصبح المواطنون يخجلون من ذكر جنسياتهم عندما يقابلون مواطنين من جنسيات أخرى خارج بلادهم . قابلت من هؤلاء الكثيرين وعرفت رومانيين ومجريين ويوغوسلاف، كانوا يتحدثون عن أوطانهم بحسرة أحياناً وبخجل في كثير من الأحيان . هؤلاء كانوا جاهزين منذ عقد الستينات للمشاركة في ثورة فور اندلاعها أو في إشعالها، وحاولوا أكثر من مرة رغم القمع والتدخل العسكري السوفييتي وفشلوا مرات قبل أن يثوروا ثورتهم الكبرى التي نشبت تحت أضواء الإعلام الغربي وتشجيع، وأحياناً تمويل، أمريكا والدول الأوروبية وفي غياب القمع السوفييتي .
نقارن بين ثورة شباب مصر وهذه الثورات، فنكتشف أنه، ورغم كل التعظيم والتضخيم الذي أحيطت به ثورات أوروبا، فقد حظيت الثورة المصرية بأضعاف ما حظيت به جميع ثورات شرق أوروبا من اهتمام حكومات العالم والرأي العام العالمي . أعتقد أن المؤرخين سيتوقفون طويلاً أمام هذه المفارقة، مصر الدولة العربية النامية التي تعاني أمراض وأوجاع الفقر وتخلف المؤسسات وانهيار التعليم وتردي الأخلاق تحظى ثورتها باهتمام دولي يفوق ما حظيت به ثورات مجموعة من الدول، أحدثت في لحظتها تحولاً “ثورياً” وجوهريا في النظام الدولي، حين أوحت إلى القادة السياسيين الأمريكيين بحلم الانتقال من الاستقطاب الدولي إلى الهيمنة الامبراطورية الكاملة للولايات المتحدة كقطب أوحد، وهو الحلم الذي أفاقت منه أمريكا على واقع مختلف كثيراً لتجد نفسها أمام “جوقة” من الدول الناهضة، الصين في أقصى الشرق والهند في جنوب آسيا، والبرازيل في جنوب أمريكا، تسحب لنفسها مجتمعة بريق التحولات الدولية .
أتصور أن أحد واجباتنا في هذه المرحلة الدقيقة من مراحل بناء مستقبل لمصر على أسس نهضوية حقيقية، هو أن نحاول، كل من موقعه، الإجابة عن هذا السؤال المهم بشرط أن نبتعد قدر الإمكان عن الاجتهادات الأسطورية التي يكررها بعض السياسيين، ومنها أسطورة الدولة الأقدم في التاريخ والدولة “الأوسط” في العالم ودولة المؤسسات والاستقرار السياسي . وهي الاجتهادات التي تشبه تماماً اجتهادات سمعناها ونسمعها، ولا أساس علمياً لتفسيرها، ومنها أن المصريين شعب لا يثور، وإن ثار فبفعل فاعل أجنبي، وأن مصر دولة ثقافتها أو منظومة أخلاقها تفرض عليها أن تحترم كبير القوم فيها كما في القرية أو العائلة أو القبيلة . هذه الاجتهادات إن صلحت لشيء فهي ليبرر بها القادة تسلطهم ورفضهم التغيير . وإن كشفت عن شيء فهو أن هؤلاء الذين يلجأون إليها، وهم كثيرون من المثقفين والسياسيين، يحتقرون شعبهم أو على الأقل لا يثقون بإرادته وحكمته ويشككون في نضجه وأهليته .
لقد استطاع نظام الحكم القائم في مصر عبر سنواته التي تجاوزت الثلاثين تحقيق أهم هدفين سعت إليهما الولايات المتحدة وبعض حلفائها في المنطقة، مستفيداً من انتصار القوات المسلحة المصرية في عملياتها العسكرية ضد خط بارليف والمعارك التي دارت بعد سقوطه . كانت التجربة كافية لإقناع الولايات المتحدة أن حكومة مركزية وسلطوية في مصر أقدر على تعبئة الشعب في وقت الأزمات لحماية أهدافها المشروعة، وقادرة في الوقت نفسه على إقامة تحالفات مؤثرة في المنطقة المحيطة بها، وبخاصة في النظام الاقليمي العربي . واستقرت القناعة لدى واشنطن بأهمية إدماج نظام الحكم في مصر بطريقة عضوية في السياسة الخارجية الأمريكية باعتبار أن هذا الدمج حيوي ليس فقط لحماية المصلحة الأمريكية في الشرق الأوسط ومنها ضمان أمن “إسرائيل”، ولكنه مهم أيضاً للتأكد تماماً من ألا توضع في مصر خطط اقتصادية أو عسكرية او اجتماعية أو تربوية تهدد مستقبلاً، وأقصد لعقود عديدة قادمة، “إسرائيل” وتوسعاتها وهيمنتها الإقليمية .
كم كانت فاجرة ولئيمة تصريحات وكتابات “إسرائيلية” ومواقف سياسية وإعلامية لدول عربية أخرى اختارت أن تؤلب حكومة مصر ضد ثورة شعبها . بدت “إسرائيل” كما لو كانت تقود بعض العرب وتثير الخوف في دوائر الحكم في واشنطن وبروكسل وغيرهما، من احتمالات ما بعد الاستقرار الطويل الذي عاشت فيه مصر خلال عقود الأمن الكامل ل “إسرائيل” . لم تجد مع “إسرائيل” تأكيدات أمريكا أنها مطمئنة لأنها ممسكة بخيوط كثيرة تضمن عدم انفلات الوضع في مصر إلى حد يهدد أمن “إسرائيل”، وليس سراً أن “إسرائيل” حاولت منذ توقيع اتفاقات كامب دافيد أن تحتفظ بخيوط عدة وفي مقدمتها العلاقة المباشرة والوثيقة ببعض مسؤولي النظام الحاكم . وليس ببعيد عن الظنون، وتجاربنا مع “اسرائيل” في العراق وباكستان وإفريقيا وبخاصة حوض النيل شاهدة ، أن تثبت التحقيقات إن صدقت النوايا في إجرائها أن ل “إسرائيل” يداً في أحداث الانتقام من الشباب في مدن مصر وأحداث تفجير في أماكن متفرقة لإجبار أمريكا على فرض حلول غير ديمقراطية للأزمة المصرية .
لن تغفر “إسرائيل” للشباب الثائر في مصر أنه هدد أمنها وسلامتها حين طالب بتغيير، (كنز “إسرائيل” الاستراتيجي) حسب تعبير أحد قادة “الإسرائيليين”