معارضة استبدادية متناحرة
يقودها العرعور؟
} غالب قنديل
شكلت مناقشات مؤتمر اسطنبول الذي نظمته قيادة الإخوان المسلمين في سورية في نهاية الأسبوع الماضي عيّنة عن تكوين المعارضات السورية وطبيعة توجهاتها ومضامين مشاريعها السياسية التي تفترق في جميع القضايا وتلتقي بكمية عالية من الحقد على خصومة القيادة السورية، وتجتمع في أحضان الحلف الأطلسي واللوبي الصهيوني الأوروبي، بينما تأمن في الملاذ التركي بالتمويل القطري المعروف وبالدعم السعودي الخفي.
الخلافات والانشقاقات والصراعات التي تجول مرابع المعارضين السوريين في الخارج والداخل، وصفها صاحب الدعوة إلى لقاء اسطنبول هيثم المالح بأنها نزاع على الكراسي، ويقيناً فإن المحفز الرئيسي لصراع هؤلاء المعارضين ضد القيادة السورية ليس إلا الكراسي التي وعدهم بها الخارج وتعهد بتأمين الدعم الوافر لخطتهم في سبيل الظفر بها برنار هنري ليفي وجيل هرتزوغ الصهيونيان اللذان قادا اجتماع سان جرمان للمعارضة السورية.
تتكشف هذه المعارضة عن إفلاس فكري وسياسي وارتهان للمخطط الأجنبي الذي يستعملها في إضعاف سورية واستنزافها، وقد تكفلت التطورات حتى الآن بتظهير حقيقة الصورة الواقعية لهذه المعارضات التي ليس لديها برنامج واضح حول مستقبل سورية، وهي تختلف في أي مناقشة إلى حد التصادم بشأن بديلها المزعوم.
أولاً: إن أياً من المعارضين لم يقدّم لا في الخارج ولا في الداخل نقطة إضافية على سلة الإصلاحات التي طرحها الرئيس الدكتور بشار الأسد وبلور جدولها الزمني انطلاقاً من اللقاء التشاوري الذي انعقد أخيراً في دمشق، بل تنبغي الإشارة إلى أن الرئيس الأسد كان صاحب المقاربة الوحيدة حول ضرورة صوغ خيار اقتصادي سوري جديد في ضوء ما أظهرته الأزمة من مشكلات أورثها الواقع الاقتصادي، سواء ما يتصل منه بتفاوت متزايد بين الريف والمدينة وبقصور في السياسات الزراعية أم حول ضرورة معالجة البطالة وتجاوز ما يعانيه ذوو الدخل المحدود في المجتمع السوري، أما العناوين الإصلاحية الأخرى التي طرحها الاسد بدءاً من البند الدستوري المفتوح على خياري الاستبدال أو التعديل، مروراً بإرساء قواعد التعدد الديمقراطي عبر قوانين الإعلام والانتخابات والأحزاب، فهي أعلى ما بلغته سقوف المعارضين.
الفرق القائم بين طروحات الرئيس الأسد والمعارضات السورية، يكمن في أن الرئيس يمسك بنصوص جاهزة بنتيجة سلسلة من عمليات التحضير والتشاور، ويلقيها على طاولة الحوار التي يدعو إليها جميع المعارضين من دون استثناء في الداخل كما في الخارج، بينما أولئك لا يطرحون سوى العناوين، وقد انتقلوا في معظمهم إلى شعار إسقاط النظام تلبية للطلب الأميركي الأطلسي «الإسرائيلي» القاضي بتصعيد الضغوط على سورية وقيادتها.
ثانياً: السؤال الذي يردده جميع متابعي الشأن السوري بإلحاح حول جدوى الحوار والدعوة إلى شراكة سياسية كالتي يتبناها الرئيس الأسد لإرساء نظام تعددي ديمقراطي جديد، يتصل بما تردده المعارضة بجميع مكوناتها ليل نهار عن عدم مونتها على الشارع، وفي هذا الكلام شيء من الحقيقة وشيء من التجاوز المقصود للوقائع، ربما كانت بداية الأحداث تنطوي على مكونات عفوية، وقد ظهرت بالفعل لجان ميدانية ليست امتداداً للتنظيمات الفاعلة في إطار المعارضة السورية وبالتحديد الإخوان المسلمين وجماعة التكفير أي العراعرة نسبة إلى شيخهم عدنان العرعور المقيم في السعودية والمستوطن في قناته الفضائية بالمال السعودي، أو أحزاب المنسقية التي يرأسها السيد حسن عبد العظيم، أم حزب الشعب برئاسة رياض الترك وحزب العمل الشيوعي.
المجموعات التي كانت تعبّر عن الحراك العفوي اصطدمت واقعياً بظهور السلاح في أيدي قوى منظمة تنتمي إلى الإخوان المسلمين وإلى جماعة التكفير، ولعل النموذج الحي لهذه الحالة هو التجربة التي خاضها مع مجموعات من الشباب المعارض محمد سعيد حماده الذي قدّم شهادة حية عن غرف العمليات والسيارات المجهزة برشاشات ثقيلة وعن أدوات التعذيب المتطورة التي عاينها لدى اختطافه بسبب إصراره على سلمية الاحتجاج ورفضه للتحريض الطائفي ولاستعمال السلاح ولاستهداف الجيش السوري والقوى الأمنية.
لقد أخرجت الاحتجاجات من طابعها العفوي ونزعت عنها السلمية بكل وضوح ويبدو ظاهراً أن الفتنة الطائفية هي الغاية التي يتوسلها مسلحو التكفير والإخوان أخيراً كما تبين في الجرائم التي ارتكبوها في حمص وقطنا، بينما يبدي المجتمع السوري بقواه الحية تمسكاً عالياً بالوحدة الوطنية ورفضاً متقدماً لفخ الاقتتال الطائفي.
ثالثاً: يتضح في أي معاينة واقعية أن المعارضة السورية المتشققة والمتناحرة على الكراسي كما قال المالح، مجبرة على الاحتفاظ بوحدة أطرها لتؤدي الدور الذي يطلبه الممولون والحاضنون، ومن الواضح أن الجهات الخارجية التي تستخدمها وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية تزداد يأساً من أوضاعها، وهذا هو سر الارتباك الذي عبّرت عنه وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في تصريحاتها من اسطنبول التي استدعت توضيحات من البيت الأبيض عن استعجال الوزيرة وتسرعها بالكلام قبل مشاورة الرئيس، وكانت كلينتون قد رفعت من وتيرة لهجتها في تهديد سورية لتحاول استرضاء المعارضين الذين أبلغوها خيبتهم من كلامها عن ضبابية الوضع السوري وصعوبة التأثير فيه من الخارج.
الفتنة الطائفية والتمرد المسلح الحدودي هما آخر ما تستطيع المعارضة السورية القيام به لتأكيد جدوى الرهان الأميركي عليها، ولتسديد فاتورة التمويل والدعم الأمني واللوجستي الذي تتلقاها من التحالف الدولي العربي «الإسرائيلي» الداعم لخطة تخريب سورية، ولذلك حمل الأسبوعان الماضيان موجة من التصعيد التي ظهرت فيها وقائع التمرد المسلح والإرهاب التكفيري في كثير من المناطق السورية واندلعت في هذا السياق المعركة في البوكمال آخر الثغور الحدودية التي يراهن المعارضون على جعلها جسراً للتدخل الخارجي تنفيذاً لخطة السيناتور الأميركي جون ماكين واللبناني العميل للموساد وليد فارس التي سبق لنا أن نشرنا تقريراً بريطانياً عنها قبل حوالى الشهرين.
رابعاً: يبدو بكل وضوح أن قوة التكفير التي يتزعمها العرعور تؤدي الدور الأنشط في التمرد المسلح وتجذب خلفها الجناح المتطرف من الإخوان المسلمين بعلم قيادة التنظيم التي تتنكر لذلك، وهو ما أظهرته تجربة حماه التي تجاوب أئمة مساجدها مع مساعي المحافظ وأنذروا العرعور بسحب مسلحيه وحواجزه من الأحياء الداخلية للمدينة.
لكن الحقيقة الأهم في الكلام عن وضع حماه هي أن أهالي المدينة اتخذوا موقفاً واضحاً ضد سيطرة مسلحي الإخوان والعراعرة والمعارضين الذين ساندوهم من الخارج والداخل، وجاء هذا التمرد الشعبي صامتاً عبّر عنه النزوح الكثيف من المدينة التي تحولت مدينة اشباح لا وجود فيها لغير التنظيمات المتطرفة المسلحة التي تدفع الأموال للصبية والفتيان ولبعض جماعات الغوغاء وتزودهم بالسواطير والسكاكين لتنشر الإرهاب داخل المدينة.
المحنة التي عاشتها حماه قدمت نسخة خاصة عن الاستبداد والإرهاب الذي تمثله سلطة المعارضة السورية حيث تسيطر بسلاحها وهي نسخة مكررة بخصوصية محلياً عما جرى في درعا وفي جسر الشغور وبانياس وتلكلخ وما يجري حالياً في البوكمال.
الشعب السوري الذي يؤكد التفافه المتواصل حول الجيش والدولة الوطنية ممثلة بالرئيس الأسد والذي ينتفض رفضاً للفتنة وللعصبيات الطائفية التي يثيرها الإخوان والتكفيريون ينتظر صحوة لدى بعض المعارضين الديمقراطيين في الداخل والخارج الذين ما زالوا على رفضهم للحوار، وبعضهم لا يرتبط بالأجندات الخارجية ولكنه واقع فعلياً ضحية لابتزاز الإخوان وجماعة العرعور، ومن المعيب في تاريخ هؤلاء أن يقبلوا دور الطرابيش السياسية التي تحتشد في واجهة معادلة يصنعها على الأرض الإخوان والعراعرة ويفرضون عليهم نتائجها.
عضو المجلس الوطني للإعلام