أحمد قصير
في الساعة السابعة من صباح يوم الخميس 11 تشرين الثاني 1982، كانت مدينة صور تغرق في بحر جنود قوات الإحتلال الإسرائيلي، الذين انتشروا في كل الزوايا يفتشون عن المقاومين، ويعتقلون ويحققون ويجندون العملاء.
كانت صور حزينة، يائسة توقفت فيها أجراس الكنائس وأصوات المآذن، حتى أمواج بحرها خفّت لدرجة أنها ماتت، فقال الناس يومها: "مات بحر صور، وذبل زهرها، ويبس ليمونها، وتعطلت فيها كل أنواع الحياة".
ولكن أبناء صور الذين قهروا الإسكندر المقدوني، وصمدوا في مواجهة الإحتلال الإسرائيلي، أرادوا عودة الحياة الى منطقتهم، الى مدينتهم، الى قراها وبحرها وأشجارها ومياهها، وعلموا أن العائق والحائل دون ذلك، هم أولئك الجلاوزة من جنود قوات الإحتلال الذين عانوا فيها فساداً.
في ذلك اليوم هزّ المدينة انفجار ضخم، وتصاعد دخان أسود هائل، غطت سحبه سماء المدينة والمنطقة، وتسارع الأهالي لمعرفة الحدث، وتناقلت الألسن ان أحد المقاومين من أبناء جبل عامل المخلصين الشرفاء المؤمنين، قام بعملية إستشهادية استهدفت مقر الحاكم العسكري، الواقع في "بناية عزمي" وفجر نفسه بالمبنى وسقط المبنى كاملاً على من فيه، ولم يكشف النقاب في حينها عن الجهة التي نفذت أو اسم الاستشهادي، إلا بعد تحرير منطقة صور، وذلك في 19 /أيار 1985، حيث أعلنت "المقاومة الإسلامية - حزب الله" مسؤوليتها عن العملية، وأن منفذها هو الشاب أحمد قصير من دير قانون النهر، ويبلغ من العمر 18 عاماً.
انطلاقة للعمليات الإستشهادية
بروح هذه العملية الجريئة إنطلقت قافلة كبيرة من المجاهدين الإستشهاديين، الذين روعوا جنود العدو الصهيوني في انحاء لبنان كافة، هذه المسيرة التي انطلقت يوم 11 تشرين الثاني 1982 ليبلغ عدد شهداء "المقاومة الإسلامية" حسب احصائيتها 1284 شهيداً، وإن هذه المسيرة مستمرة حتى بلوغ النصر محطته الأخيرة.
جاءت هذه العملية بعد خمسة أشهر وسبعة أيام على بداية الإجتياح الإسرائيلي للبنان، وسقوط آلاف من الشهداء والجرحى، فضلاً عن آلاف المعتقلين، يومها قاد فتى لم يتجاوز عمره ثمانية عشر عاماً سيارته "البيجو" التي كانت مفخخة بكميات كبيرة من المتفجرات، إقتحم بها مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي لمنطقة صور "بناية عزمي" والذي كان يضم القيادة العسكرية وبقربها معسكر للجيش الإسرائيلي في منطقة جل البحر - صور.
وذكرت معلومات من "المقاومة الإسلامية" انه "جرى تحديد اليوم العاشر من تشرين الثاني 1982 لتنفيذ العملية، لكن ما حالت دون تنفيذها، ظروف طارئة، فاستعيض عنها باليوم التالي أي - الحادي عشر، عند الساعة السابعة صباحاً، وذلك في طقس ممطر، اضطر خلاله الجنود للإلتجاء الى المبنى بعكس اليوم الأول، الذي كانت فيه السماء صافية والجنود منتشرين في المخيم المجاور، الأمر الذي زاد من عدد الجنود الذي أضيف اليهم مسؤول كبير في المخابرات بات ليلته في المبنى، بينما نقل في ذلك اليوم عدد كبير من المعتقلين اللبنانيين الى مبنى أخر".
ويضيف المصدر في "المقاومة الإسلامية": "إن المبنى يتألف من ثماني طبقات ويضم مكاتب تابعة مباشرة للمخابرات الإسرائيلية، بينما خصص أحد الطوابق كمقر لوحدة المساعدة التابعة للقيادة الإسرائيلية في المنطقة، وحوّل الطابق الرابع الى مقر يبيت فيه عدد من الضباط والرتباء ممن يكلفون بمهمات محدودة، كالمخابرات واللوجستيك والإرتباط".
إرباك في قيادة الاحتلال
مع حدوث الإنفجار، سرعان ما هوى المقر على من فيه وشب حريق هائل وارتفعت سحب الدخان، في لحظات مرعبة امتزج فيها صراخ الجنود مع طلقات نارية متقطعة، وتحول المكان الى ساحة من الجثث المتناثرة، تصل إليها تباعاً الجنرالات والقادة، بعضهم بواسطة السيارات، والبعض الآخر أقلّته المروحيات وعلى رأسهم قائد المنطقة الشمالية يومها الجنرال "أمير دروري".
- الناطق العسكري الإسرائيلي اعترف بمقتل 74 ضابطاً وجندياً بمن فيهم الحاكم العسكري، وأُعتبر 27 منهم في عداد المفقودين، وفي محصلة أوردتها الصحف الإسرائيلية بعد بضعة أيام أن هناك 141 قتيلاً وعشرة أُعتبروا مفقودين.
- مجلس وزراء إسرائيل أعلن الحداد في يوم 1982/11/15، حيث أُطلقت صفارة في جميع أنحاء الكيان الصهيوني، تلتها دقيقة من الهدوء التام، فيما واصلت وسائل الإعلام قطع برامجها وبث الموسيقى الحزينة، في حين خصصت المدارس ساعة من حصصها للحديث عن العملية.
- إحتار الإسرائيليون في تفسير العملية، ودفعهم ذلك الى القول حيناً "إن ما جرى "بسبب خلل في البناء"، وحيناً آخر" باستبعاد تفجير سيارة مفخخة، "فالانفجار تمّ بعبوات ناسفة زرعت تحت أعمدة المبنى وأدت الى انهياره كلياً.. هكذا كانت تحليلات الضباط الصهاينة ومنهم رافائيل إيتان رئيس الأركان وضابط كبير آخر.
"المقاومة الإسلامية"
وأفادت مصادر انه بقي اسم احمد قصير مجهولاً، كذلك الجهة التي نفذت العملية، حتى 1985/5/19 عندما أقامت "المقاومة الإسلامية" احتفالاً بذكرى شهدائها في بلدة دير قانون النهر كشفت فيه النقاب عن بطل العملية الاستشهادية الأولى ضد قوات الإحتلال، وذلك خلال كلمـــة الـــقاها يومها السيد حسن نصر الله، (الأمين الحالي لـ "حزب الله").
وتضيف المصادر: "كانت الخطة تقضي بعمليتين متشابهتين في آن واحد ليكون وقعهما أكبر، واختير المركز الثاني في مدينة صيدا، حيث يوجد مركز قيادة إسرائيلي، لكن ظروفاً ميدانية طرأت في اللحظات الأخيرة صرفت النظر عن تنفيذ العملية، واكتفي بعملية أحمد قصير الذي تقدم بسيارته نحو المبنى، بينما انتظر رفيقان له في سيارة أخرى قريباً من المكان، بعدما ودّعاه بحرارة قبل أن تلتهب حرارة المنطقة بأكملها بدوي انفجار سيارة أحمد قصير، في أهم مركز عسكري إسرائيلي في الجنوب، ليفتح بذلك عهداً جديداً في الصراع المسلح بين الحزب والكيان الصهيوني.
وقد اعتمدت "المقاومة الإسلامية" و"حزب الله" ذكرى عملية الإستشهادي أحمد قصير في يوم الشهيد في "حزب الله" والمقاومة الإسلامية"، كما رفعت مكان العملية في منطقة "جل البحر" لافتة حديدية أرخت للعملية البطولية.
وقد أحيا "حزب الله" يوم الشهيد في بلدة دير قانون النهر يوم الأحد الماضي، وتحدث فيه مسؤول "حزب الله" في الجنوب الشيخ نبيل قاووق.
من هو الشهيد قصير
الشهيد الإستشهادي أحمد جعفر قصير:
- مواليد 1963 من بلدة دير قانون النهر - قضاء صور.
- تربى منذ طفولته على الإلتزام بالمبادئ الدينية. وتمتع بصفات وخصال نبيلة ميزته عن كثير من أترابه.
- هو أول استشهادي بعد الإجتياح الإسرائيلي للبنان الذي تم في حزيران من العام 1982، حيث نفذ عمليته في 11 تشرين الثاني من العام 1982 .